فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في تحريم القتل وبيان إثم القاتل:

اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين أن القتل من أكبر الكبائر وأعظم الذُّنُوب وأشد الآثام بل هُوَ أغلظها جميعًا بعد الإشراك بِاللهِ وما زال النَّاس مُنْذُ تكونوا جماعات وظهر فيما بينهم تعارض الرغبات والشهوات وتمكنت بها في النُّفُوس بواعث التعدي يرون أن جريمة القتل من أكبر الجرائم وَذَلِكَ أنها سلب لحياة المجني عَلَيْهِ بغير حق وتيتيم لأولاده وترميل لنسائه وحرمان لأهله وأقاربه وإضاعةً لحقوقه، وقطع لأعمال حَيَاتهُ، والحيلولة بينه وبين التوبة والوصايا وغير ذَلِكَ وإيصال النَّاس حقوقهم إن كَانَ عَلَيْهِ لَهُمْ شَيْء وأَنْتَ إذا تتبعت المعاصي معصية معصية لا تجد لواحدةٍ منها فسادًا يساوي فساد القتل لأن الإِنْسَان إذا مَاتَ ومحي من الوجود ذهب كله ولم يبق ناحية من نواحيه ولَيْسَ ذَلِكَ المعنى في أي معصية ولذَلِكَ كانت هذه الكبيرة تلي الشرك بِاللهِ وورد عن أبي مُوَسى رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا أصبح إبلَيْسَ بث جنوده فَيَقُولُ: من أضل اليوم مسلما ألبسته التاج. قال: فيجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى طلق امرأته، فَيَقُولُ: يوشك أن يتزوج، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى عق والديه، فَيَقُولُ: يوشك أن يبرهما، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى أشرك فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى قتل فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ ويلبسه التاج». رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه.
وأيضًا تحد لشعور الجماعة البشرية الَّذِي فطرت عَلَيْهِ من اعتقاد أن الحياة جعلها الله حقًّا لكل حيٍّ يمتع به ولا يجوز انتزاعه منه إِلا بحق شرعي.
وأيضًا جريمة القتل مزعزعة لما ترجو هذه الجماعة، من هدوء الحياة واستقرارها وأيضًا هدم لعمارة شادها الله تتَكُون منها ومن أمثالها العمارة لهَذَا الكون.
وهَذَا القرآن الكريم يحدثنا عن أول اعتداءٍ وقع من الإِنْسَان على أخيه ويصور لنا كيف كَانَ القاتل والمقتول كلاهما يعدان القتل جريمة آثمة تستوجب غضب الله وعقابه وأن القاتل لشعوره بهَذَا كَانَ يعالج في نفسه الأقدام على هذه الجريمة علاج الكاره المتحرج حتى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
وَقَالَ بعض المفسرين علة قوله تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} من أجل الاعتداء الَّذِي لا موجب له ولا مبرر على المسالمين الوادعين الَّذِينَ لا يريدون شرًّا ولا مدافعة: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أن جريمة قتل نفس واحدة بلا مبرر من قصاص أو دفع لفساد عام كجريمة قتل النَّاس جميعًا وأن حماية نفس واحدة واستحياءها بهذه الحماية في أية صورة من صورها ومنها القصاص كأنها استحياء للناس جميعًا.
ذَلِكَ أن الاعتداء على نفس واحدة هُوَ اعتداء على حق الحياة الَّذِي يصون للناس جميعًا فالاستهتار بهَذَا الحق اعتداء على كُلّ من يدلي به ويتحصن به والمحافظة عَلَيْهِ محافظة على الحق الَّذِي تصان به دماء النَّاس وأرواحهم فلَيْسَتْ نفس مفردة هِيَ التي تقتل إنما هُوَ حقها في الحياة التي يشاركها فيها النَّاس، ولَيْسَتْ نفس مفردة هِيَ التي تصان إنما هِيَ كُلّ نفس مستحقة للصيانة بما استحقت به تلك النفس الواحدة. اهـ.
وقَدْ اختلف الْعُلَمَاء هل للقاتل من توبة أم ى فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف علماء الكوفة فيها فرحلت إلى ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فسألته فَقَالَ: نزلت هذه الآيَة: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ}. الآيَة وهي من آخر ما نزل، وما نسخها شَيْء.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: كنا عَنْدَ ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا عَبْد اللهِ بن عباس ما تَرَى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فَقَالَ: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} قال: أفرَأَيْت إن: {تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى والَّذِي نفسي بيده، لَقَدْ سمعت نبيكم صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «ثكلته أمه، قاتل مُؤْمِن متعمدًا، جَاءَ يوم القيامة آخذ بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه في قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يَقُولُ: يا رب سل هَذَا فيما قتلني؟» وأيم الَّذِي نفس عَبْد اللهِ بيده لَقَدْ أنزلت هذه الآيَة فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عَلَيْهِ وسلم وما نزل بعدها من برهان.
وعن عَبْد اللهِ بن مسعود عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «يجيء المقتول متعلقًا بقاتله يوم القيامة آخذ رأسه بيده فَيَقُولُ: يا رب سل هَذَا فيم قتلني قال: فَيَقُولُ قتلته لتَكُون العزة لفلان قال: فإنها لَيْسَتْ له بؤ بإثمه قال: فيهوى في النار سبعين خريفًا».
وعن معاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «كُلّ ذنب عَسَى الله أن يغفره إِلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا». رواه أَحَمَد والنسائي، ولأبي داود من حديث أبي الدرداء كَذَلِكَ وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من أعان على قتل مُؤْمِن بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله».
اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدُّنْيَا والهوى ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تغفر وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.فصل في بيان توبة القاتل:

أخَرَجَ الطبراني في الكبير والضياء في المختَارَّة عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «أبى الله أن يجعل لقاتل المُؤْمِن توبة».
وروي عن البراء بن عازب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن على الله من قتل مُؤْمِن بغير حق». رواه ابن ماجة بإسناد حسن. ورواه البيهقي والأصبهاني، وزَادَ فيه: «ولو أن أَهْل سماواته وأَهْل أرضه اشتركوا في دم مُؤْمِن لأدخلهم الله النار».
وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن عَنْدَ الله من قتل رجل مسلم». رواه مسلم والنسائي والترمذي مرفوعًا وموقوفًا ورجح الموقوف.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاء». رواه البخاري ومسلم وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لن يزال المُؤْمِن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا». وَقَالَ ابن عمر رضي الله عنهما: إن من ورطات الأمور التي لا مخَرَجَ لمن أوقع نَفْسهُ فيها سفك الدم الحرام بغير حله. رواه البخاري والحاكم وَقَالَ: صحيح على شرطهما وروى ابن ماجة عن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: رَأَيْت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يطوف بالكعبة وَيَقُولُ «ما أطيبك وما أطيب ريحك ما أعظمك وما أعظم حرمتك والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لحرمة المُؤْمِن عَنْدَ الله أعظم من حرمتك ماله ودمه». وعن أبي سعيد وأَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لو أن أَهْل السماء وأَهْل الأَرْض اشتركوا في دم مُؤْمِن لأكبهم الله في النار». رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن غريب وروى الطبراني في الصغير من حديث أبي بكرة عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لو أن أَهْل السماوات والأَرْض اجتمعوا على قتل مسلم لكبهم الله جميعًا على وجوههم في النار».
وعن جندب بن عَبْد اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين الْجَنَّة ملء كف من دم امرئ مسلم أن يهريقه، كما يذبح به دجاجة كُلَّما تعرض لباب من أبواب الْجَنَّة حال الله بينه وبينه ومن استطاع منكم أن لا يجعل في بطنه إِلا طيبًا فليفعل فإن ما ينتن من الإِنْسَان بطنه». رواه الطبراني ورواته ثقات.
وَقَالَ عبد الملك بن مروان كنت أجالس بريرة بالْمَدِينَة فكانت تَقُول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالاً، وإنك لخليق أن تلي الأَمْر فإن وليته فاحذر الدُّنْيَا فإني سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «إن الرجل ليدفع عن باب الْجَنَّة بعد أن ينظر إليها، بملء محجمة من دم يهريقه من مسلم بغير حق». انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «أبغض النَّاس إِلَى اللهِ ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه». رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام: أخبر صلى الله عَلَيْهِ وسلم أن أبغض النَّاس إِلَى اللهِ هؤلاء الثلاثة وَذَلِكَ لأن الفساد إما في الدين وإما في الدُّنْيَا فأعظم فساد الدُّنْيَا قتل النُّفُوس بغير حق، ولهَذَا كَانَ أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الَّذِي هُوَ الكفر.
وعن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «كُلّ ذنب عَسَى الله أن يغفره إِلا لرجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمدًا». رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا أصبح إبلَيْسَ بث جنوده، فَيَقُولُ: من أضل اليوم مسلمًا ألبسته التاج. قال: فيجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى طلق امرأته فَيَقُولُ: يوشك أن يتزوج، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى عق والديه، فَيَقُولُ: يوشك أن يبرهما، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى أشرك فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويجيء، فَيَقُولُ: لم أزل به حتى قتل فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويلبسه التاج». رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «يخَرَجَ عنق من النار يتكلم فَيَقُولُ: وكلت اليوم بثلاثةٍ: بكل جبار عنيدٍ ومن جعل مَعَ الله إلهًا آخر ومن قتل نفسًا بغير حق فينطوي عَلَيْهمْ فيقذفهم في حمراء جهنم». رواه أَحَمَد والبزار.
فَإِيَّاكَ قَتْلُ النَّفْسِ ظُلْمًا لِمُؤْمِنٍ ** فَذَلِكَ بَعْدَ الشِّرْكِ كُبْرَى التَفَسُّدِ

كَفَى زَاجِرًا عَنْهُ توعُّدُ قَادِرٍ ** بِنَارٍ وَلَعْنٍ ثُمَّ تَخْلِيدِ مُعْتَدِ

فَقَدْ قَالَ عَبْد اللهِ ذُو الْعِلْمِ وَالتُّقَى ** بِنَفْيِ مَتَابِ الْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّد

اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وأمنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
فصل:
وممن يرى أنه لا توبة لقاتل المُؤْمِن عمدًا أَبُو هُرَيْرَةِ وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن والضحاك بن مزاحم نقله ابْن أَبِي حَاتِم عنهم وبالتالي فلو لم يرد في بيان ضخامة هَذَا الذنب ذنب القتل، وعظمه الَّذِي لا يتناهى إِلا قوله تَعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}.
لكَانَ فيها كفاية وموعظة وزجر، ففيها من الوعيد الشديد الَّذِي ترجف منه القُلُوب وتنصدع له الأفئدة وينزعج منه أولو العقول، فقرن سُبْحَانَهُ وتَعَالَى القتل بالشرك، وبين أن جزاءه جهنم وأنه خالد فيها وأن مَعَ ذَلِكَ الْعَذَاب والخلود غضب الرب جَلَّ وَعَلا ولم تسكت الآيَة، بل أضافت إلى ذَلِكَ اللعن، وَهُوَ الطرد والإبعاد عن الرحمة ولم تنته الآيَة إلى هَذَا الحد من بيان عظم جزاء القاتل بل صرحت تصريحًا لا خفاء فيه بأن عذاب ذلك القاتل سيكون نوعًا وحده في الشدة لا يماثله عذاب أي معصية ما عدا الشرك، فذنبه أعظم الذُّنُوب وعقوبته أشد العقوبات هَذَا مِمَّا ورد في قتل الإِنْسَان غيره وأما قتل الإِنْسَان نَفْسهُ المعروف عندنا اليوم بالانتحار فهو نوع من قتل النفس التي حرم الله وَهُوَ جدير بأن يكون أفظع أنواع القتل لأن حرض الإِنْسَان على حَيَاتهُ أمر فطري يبعد كل البعد أن تثور عَلَيْهِ عوامل الْغَضَب والانتقام.
ونفس الإِنْسَان لَيْسَتْ ملكًا له فهو لم يخلق نَفْسهُ ولا عضوا من أعضائه، بل ولا خلية من خلاياه، وإنما نَفْسهُ وديعة وأمانة عنده استودعه الله إياه، فلا يجوز له التفريط فيها ولا التصرف فيها إِلا على وفق الشرع فيكف بالاعتداء عَلَيْهَا بالتخلص منها قال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فالمسلم يراد منه أن يكون صلب العود قوي العزم في مواجهة الشدائد ولم يبح له أن يهرب من الحياة، ويخلع ثوبها لبَلاء نزل به، أو أملٍ كَانَ يحلم به فخاب أمله فإن المُؤْمِن خلق للجهاد لا للعقود وللكفاح لا للفرار، وإيمانه بِاللهِ وخلقه يأبيان عَلَيْهِ أن يفر من ميدان الحياة ومعه السِّلاح الَّذِي لا يفل، والذخيرة التي لا تنفد، سلاح الإِيمَان المكين، وذخيرة الخلق المتين الَّذِي استمده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إليك إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وفقنا الله وَجَمِيع المسلمين إلى الإقتداء بهما والتمسك بهما علمًا وعملاً.
وإذا كَانَ جزاء من قاتل المُؤْمِن عمدًا ما سمعت فإن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يصور لنا جزاء قاتل نَفْسهُ من ذَلِكَ قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأَ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا». رواه البخاري ومسلم والترمذي وَأَبُو دَاود والنسائي، فهَذَا الْحَدِيث يصرح بالخلود المؤبد في حق قاتل نَفْسهُ ويفيد أن قاتل نَفْسهُ في أي آلة من الآلات القاتلة يعذب نَفْسهُ بتلك الآلة في نار جهنم فيستعملها هناك كما استعملها هنا عِنْدَمَا قتل نَفْسهُ فيجتمَعَ عَلَيْهِ عذابان عذاب النار وعذاب الآلة المذكورة نسأل الله العافية في الدُّنْيَا والآخِرَة وعن وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعَنُ نَفْسَهُ يَطْعَنُ نَفْسَهُ فِي النَّارِ والَّذِي يَقْتَحِمُ يَقْتَحِمُ فِي النَّارِ». رواه البخاري.
ومن ذَلِكَ ما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ». فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي قُلْتَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَدْ قَاتَلَ قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَى النَّارِ». فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِين أَنْ يَرْتَابَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحة شَدِيدةٌ فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَأَخَذَ ذُبَابَ سَيْفِهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ». ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ: «إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ». وعن جندب بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان ممن كان قيلكم رجل به جرح فجزع فاخذ سكينًا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات فقال الله بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة» وعن جابر بن سمرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رجلاً كانت به جراحة فأتى قرنًا له فأخذ مشقصًا فذبح به نَفْسهُ فلم يصل عَلَيْهِ النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم. رواه ابن حبان في صحيحه.
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا متعمدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْء لَا يَمْلِكُ وَلَعْنُ الْمُؤمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». رَوَاهُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمْ.
وجَاءَ في ترويع المسلم عدة أحاديث كقوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كَانَ أخاه لأبيه وأمه».
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة».
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «من أخاف مؤمنًا كَانَ حقًّا على الله ألا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة».
فَيَا عَجَبًا نَدْرِي بِنَارٍ وَجَنَّةٍ ** وَلَيْسَ لِذِي نَشْتَاقُ أَوْ تِلْكَ نَحْذَرُ

إِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ وَشَوْقٌ وَلا حَيَا ** فَمَاذَا بَقِي فِينَا مِنَ الْخَيْرِ يُذْكَرُ

وَلَيْسَ لِحَرٍّ صَابِرِينَ وَلا بَلَى ** فَكَيْفَ عَلَى النِّيرَانِ يَا قَوْمُ نَصْبِرُ

وَفَوْتُ جِنَانِ الْخُلْدِ أَعْظَمُ حَسْرَةً ** عَلَى تِلْكَ فَلَلْيَسْتَحْسِرِ الْمُتَحَسِّرِ

فَأُفٍّ لَنَا أُفٍّ كِلابُ مَزَابِلٍ ** إِلَى بتْنِهَا نَغْدُوا وَلا نَتَذَبَّرُ

نَبِيعُ خَطِيرًا بِالْحَقِيرِ عِمَايَةً ** وَلَيْسَ لَنَا عَقْلُ وَلُبٌّ مُنَوَّرُ

فَطُوبِي لِمَنْ يُؤْتَى الْقَنَاعَةَ وَالتُّقَى ** وَأَوْقَاتُهُ فِي طَاعَةِ اللهِ يَعْمُرُ

آخر:
تَوَرَّعْ وَدَعْ مَا أَنْ يَرِيبُك كلّهُ ** جَمِيعًا إِلَى مَا لا يَرِيبِكَ تَسْلَمِ

وَحَافظَ عَلَى أَعْضَائِكَ السَّبْعِ جُمْلَةً ** وَرَاعِ حُقُوَق اللهِ فِي كُلُّ مُسْلِم

وَكُنْ رَاضِيًا بِاللهِ رَبًّا وَحَاكِمًا ** وَفَوّضْ إليه فِي الأُمُورِ وَسَلّم

آخر:
لِكَسْرَةٌ مَنْ رَغِيفِ الْخُبْزِ تُشْبِعُنِي ** وَشَرْبَةٌ مِنْ قَرَاحٍ الْمَاءِ تُرْوِينِي

وَخِرْقَةٍ مِنْ خَشِينِ الثَّوْبِ تَسْتُرُنيِ ** حَيًّا وَإِنْ مِتُّ تَكْفِينِي لِتَكْفِينِي

لا أَبْتَغِي وَصْلَ مَنْ يَبْغِي مُفَارَقَتِي ** وَلا ألينُ لِمَنْ يَبْتَغِي لِينِي

آخر:
قَنِعْتُ بِالْقُوتِ فِي زَمَانِي ** وَصُنْتُ نَفْسِي عَنِ الْهَوَانِ

خَوْفًا مِن النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا ** فَضْل فُلانٍ عَلَى فُلانِ

مَنْ كُنْتُ عَنْ مَاله غَنِيًّا ** فَلا أُبَالي إِذَا جَفَانِي

وَمَنْ رَآنِي بِعَيْنِ نَقْصٍ ** رَأَيْتُه بِالَّذِي رَآنِي

وَمَنْ رَآنِي بِعَيْنِ تَمٍّ ** رَأَيْتُهُ كَامِلَ الْمَعَانِي

اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وسلم.

.موعظة:

عباد الله طلب الرزق الحلال فريضة على كُلّ مسلم فالتمس الرزق أيها المسلم من حله وَإِيَّاكَ وما نهاك الله عَنْهُ وحرمه فمتاع الدُّنْيَا قليل؛ أيها المسلم إن جمعك للمال من حله عبادة إذا كنت تريد به إعفاف نفسك، والقيام بما أوجبه الله عَلَيْكَ من الحقوق، وَاحْذَر من ترك الْعَمَل، وافعل الأسباب التي بها يحصل الرزق بإذن الله، واعْلَمْ أن من ترك الْعَمَل وغلب عَلَيْهِ الكسل حتى صار كلا على الخلق يعده أهله ثقلاً ويراه صاحبه بغيضًا، ولا يلقاه أحد إِلا وكره لقياه قال تَعَالَى حاثًا على طلب الرزق: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاة فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}، وَقَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} والمُؤْمِن المحترف الكسوب الَّذِي يأكل من عمل يده مكرم محبوب محترم عَنْدَ أهله والأولاد وكَانَ نوح وداود يحترفان التجارة ومُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم رعى الغنم، ومُوَسى كَانَ أجيرًا عَنْدَ صَاحِب مدين وكَانَ إدريس خياطًا، وما أبعد هذه الأعمال الشريفة عن الكسل والبطالة وكَانَ السَّلَف رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عمالاً مكتسبين فكلهم ما بين غني شريف وفقير شريف عفيفٍ، لا تشغلهم الدُّنْيَا عن الآخِرَة ولا يمنعهم الدين عن طلب الكسب والقيام بالواجبات، وهم مَعَ هذا من أقوى النَّاس توكلاً على الله ورضى بما قدّر وقضاه وهَذَا أمر الله به ورضيه.
لِمَنْ تَطْلُبَ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ تَرِدْ بِهَا ** رِضَى الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْبَرِيَّة

آخر:
وَكُنْ بِالَّذِي قَدْ خَطَّ بِاللَّوْحِ رَاضِيًا ** فَلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وَخَطَّهُ

وَإِنَّ مَعَ الرِّزْقِ اشْتِرَاطُ الْتِمَاسِهِ ** وَقَدْ يَتَعَدَّى إِنْ تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ

فَلَوْ شَاءَ أَلْقَى فِي فَمِّ الطَّيْرِ قُوتَهُ ** وَلَكِنَّهُ أَوْحَى إِلَى الطَّيْرِ لَقْطَهُ

آخر:
وَمَا طَلَبُ الْمَعِيشَةِ بِالتَّمَنِي ** وَلِمَنْ أَلْقِ دَلْوَكَ بِالدَّلاءِ

تَجِيءُ يِمِلْئِهَا طَوْرًا وَطَورًا ** وَتَجِيءُ بِحَمْأةٍ وَقَلِيلِ مَاء

آخر:
لا تَقْعُدَنَّ بِكَسْرِ الْبَيْتِ مُكْتَئِبًا ** يَفْنَى زَمَانُكَ بَيْنَ اليأَسِ وَالأَمَلِ

وَاِحْتَلْ لِنَفْسِكَ فِي رِزْقٍ تَعِيشُ بِهِ ** فَإِنَّ أَكْثَرَ عَيْشِ النَّاسِ بِالْحِيَلِ

وَلا تَقُلْ إِنَّ رِزْقِي سَوْفَ يُدْرِكُنِي ** وَإِنْ قَعَدَتُ فَلَيْسَ الرِّزْقُ كَالأَجَل

اللَّهُمَّ اغفر لنا ولا تعذبنا ووفقنا ولا تخذلنا ولا تسلب الإِيمَان منا لا ملجأ إِلا إليك ولا معول لنا إِلا عَلَيْكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.